حين تُحارب الحرية:سردية الجمهورية في مواجهة الرجعية

جلال الجرادي

 

لم تكن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 حدثًا عابرًا في تاريخ اليمن. كانت ولادةً صاخبة، كسرت قرونًا من العزلة والظلام، وفتحت نافذة على الهواء الطلق. في تلك اللحظة شعر اليمني، لأول مرة، أن الوطن يمكن أن يكون له معنى آخر غير الطاعة والخضوع، وأن المواطن ليس مجرد تابع في دفتر شيخ أو عبد في بلاط إمام.

لكن، منذ اللحظة الأولى، بدأت الثورة تُحاصر من جهتين:
من الداخل، وقفت جماعات الإسلام السياسي تلعن سبتمبر وتصفه بالجاهلية، كأن الحرية رجس، وكأن العدالة كفر. لم يكن خلافها مع “النظام” فقط، بل مع فكرة أن يكون للشعب كلمة أعلى من وصية التنظيم. أرادت السيطرة على وعي الناس، على منابر المساجد، على مناهج المدارس، حتى بدا وكأنها تريد أن تعيد صياغة الجمهورية على مقاسها الضيق. وعندما عجزت عن ابتلاع الدولة، لجأت إلى تسميمها، فحولت الحرية إلى تهمة، والسيادة الشعبية إلى فوضى، والكرامة الوطنية إلى وهم.

ومن الخارج، تحركت الأنظمة الرجعية بكل ما تملك. لم يكن الأمر مسألة خلاف سياسي عابر، بل معركة بقاء بالنسبة لهم. ضخّت المال، أطلقت دعاياتها، ورعت الانقسامات كما تُرعى النار تحت الرماد. أرادت أن تقنع اليمني أن الجمهورية ليست سوى فقر وانقسام وذل، وأن الملكية وحدها هي الاستقرار. لقد حاصرونا لا بالسلاح فقط، بل بالكلمة والصورة والمعنى، حتى كاد الناس يصدقون أن الطاعة للعرش أرحم من المخاطرة بالحرية.

وهكذا، تقزمت صورة الجمهورية في الأذهان. لم يكن الخلل في الفكرة، بل في الحرب التي شُنت عليها: حرب مزدوجة، رمزية وواقعية، حرب على الوعي قبل أن تكون على الأرض. خصوم سبتمبر أرادوا أن يمحوا من الذاكرة ذلك اليوم الذي نهض فيه اليمنيون ليقولوا: نحن شعب ولسنا رعايا.

لكن الحقيقة أبسط وأعمق: الجمهورية لم تفشل لأنها واهية، بل لأنها كانت محاصرة منذ ولادتها. وبرغم كل هذا الحصار، تبقى سبتمبر لحظة تأسيسية لا يمكن شطبها. كانت صرخة أولى أيقظت في اليمنيين معنى الكرامة والاختيار، وأعادت رسم العلاقة بين المواطن والسلطة.

الجمهورية، مهما حاولوا تشويهها، ليست مجرد نظام سياسي، إنها وعد. وعد يلاحق الأجيال ويطالبهم أن يصونوه. إنها معركة تتجدد في كل جيل، لأن جوهرها لم يتغير: أن يكون الشعب هو المصدر الأول والأخير للشرعية، وأن لا يعلو على صوته عرش ولا وصاية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى